يُقدَّم معرض «أركيولوجيا الذاكرة»، المدعوم من صندوق التشجيع على الإبداع الفني والأدبي، بوصفه مشروعًا تشكيليًّا متراكمًا، يتغذّى من مسار بحثيّ وإبداعيّ طويل تشكّل منذ البدايات الأكاديميّة الأولى، وتبلور عبر مصادقة واعية ومتواصلة مع مادّة الطين. فهذه المادّة لا تُستثمر هنا باعتبارها وسيطًا تشكيليًّا فحسب، بل تُستعاد بوصفها أصلًا أنطولوجيًّا وذاكرة مادّيّة حاملة للأثر والزمن؛ جسدًا أول، وسطح كتابة، ومجالًا حيويًّا تتقاطع فيه التجربة الإنسانيّة مع سيرورات التحوّل والتشكّل.
ينبني هذا المشروع على مفهوم الحفر الأركيولوجي في الذاكرة، لا باعتباره بحثًا في الماضي بوصفه معطًى مكتملًا، بل كآليّة تفكيك وتأويل وإعادة تركيب للطبقات الدلاليّة التي راكمها الزمن داخل الوعي الفرديّ والجماعيّ. إنّه حفر في المسافة الهشّة بين الأثر والنسيان، وسعيٌ إلى مساءلة ما يُنتجه الحاضر من صيغ ذاكرة جديدة، حيث تتشابك التجربة الحياتيّة بالسؤال الجماليّ، ويتحوّل العمل الفنّي إلى مجال لاختبار العلاقة بين ما كان، وما هو كائن، وما يمكن أن يؤسّس للمستقبل.
في هذا السياق، يغدو اليومي مادّة اشتغال مفهوميّ وتشكيليّ، لا بوصفه تفصيلًا عابرًا، بل باعتباره حقلًا دلاليًّا كثيفًا، تختزن فيه الذاكرة أشكال حضورها الصامتة. وتبرز مدينتا سيدي بوزيد وسليانة كجغرافيتين مرجعيتين داخل المشروع، لا من منظور تمثيليّ أو توثيقيّ مباشر، بل بوصفهما فضاءين مشحونين بالتجربة والرمز. وتمثّل سليانة، على وجه الخصوص، لحظة تأسيسيّة في مساري الأكاديمي، حيث تداخلت ممارسة التدريس مع تعميق الوعي بالمكان باعتباره بنية حاضنة للمعرفة والتكوين، ومجالًا لتشكّل العلاقة بين الذات والفضاء.
تتوزّع أعمال المعرض بين تنصيبات خزفيّة ومنحوتات تعتمد تقنيات متعدّدة، من بينها تقنية الرّاكو، وتقوم على استراتيجيات تشكيليّة قوامها التكرار، والتضخيم، والتحوير، التركيب، المزاوجة..الخ …بما يسمح بتحرير الشكل من مقياسه الطبيعيّ ودفعه إلى احتلال الفضاء بوصفه عنصرًا فاعلًا في إنتاج المعنى. فالخزف هنا لا يُطرح كموضوع مغلق أو كقطعة مستقلّة، بل كممارسة مفتوحة تتجاوز منطق المفرد نحو بناء علاقات بصريّة وإنشائيّة، تُشرك المتلقّي في تجربة العبور داخل العمل.
ومن هذا المنظور، يندرج معرض «أركيولوجيا الذاكرة» ضمن مقاربة نقديّة تستعيد العلاقة بين الفنّ والبيئة، وتُعيد مساءلة موقع الإنسان داخل منظومات الاستغلال والتسخير. إنّه اقتراح جماليّ ذو بُعد إيكولوجيّ، يُعيد الاعتبار للأرض بوصفها أصلًا وذاكرة مشتركة، لا مادّة خامًا فحسب، ويدعو إلى بناء علاقة أخلاقيّة وجماليّة جديدة معها، قوامها الإنصات، والحماية، وإعادة التفكير في معنى الانتماء.
بهذا المعنى، لا يقدّم المعرض مجموعة أعمال خزفيّة معاصرة فحسب، بل يفتح أفقًا تأويليًّا تُستعاد فيه المادّة كأثر حيّ، وتُعاد فيه صياغة الذاكرة بوصفها عمليّة دينامكيّة، مفتوحة على التحوّل، وعلى إمكانات المعنى المتجدّد…